معرفة

ليبرتاليا: جمهورية الحرية التي أسسها لص وقِس

أقام البحَّار الفرنسي ميسون والقس الإيطالي كاراتشيولي في شمال جزيرة مدغشقر جمهورية ليبرتاليا التي عرفت الديموقراطية قبل الولايات المتحدة.

future ليبرتاليا: جمهورية الحرية التي أسسها لص وقِس

على الرغم من أن تاريخ القرصنة يحفل بأعمال السطو والنهب وتهديد أمن البحار؛ فإنه يحمل بين طياته نماذج لمتمردين عشقوا الحرية وآثروا حياة البحار بعيدًا عن سلطة الدولة، وقوانينها التعسفية، وأنظمتها الاجتماعية الجائرة.

وكان من أبرز هذه النماذج المضيئة البحَّار الفرنسي ميسون Misson والقس الإيطالي كاراتشيولي Caraccioli اللذان نجحا في تحقيق حلمهما بعالم مثالي تسوده الحرية والمساواة؛ فأقاما في تسعينيات القرن السابع عشر الميلادي في شمال جزيرة مدغشقر جمهورية ليبرتاليا التي عرفت الديموقراطية قبل الولايات المتحدة والمساواة قبل الثورة الفرنسية والاشتراكية قبل الاتحاد السوفيتي، ورفعت شعار في سبيل الله والحرية. فما حكاية هذين الرجلين، وما حقيقة هذه الجمهورية؟  

مغامرة في أعماق البحار

بحسب ما أورده ياتسيك ماخوفسكيف في كتابه «تاريخ القرصنة في العالم»، فلقد كان ميسون شابًا فرنسيًا ذكيًا يهوى حياة البحر والمغامرة، ولديه فضول لاستكشاف العالم الذي قرأ عنه في الروايات وأدب الرحلات، ولذا بعدما أتمَّ دراسة العلوم الإنسانية والمنطق والرياضيات، واجتاز تدريبه العسكري بتفوق؛ قرر خوض غمار عالم البحار؛ فعمل متطوعًا على متن سفينة فيكتوار Victoire التابعة للبحرية الفرنسية، واستطاع خلال فترة وجيزة أن يتعلم فنون الملاحة البحرية، ويصبح على دراية بجميع موانئ البحر المتوسط، ويترقَّى إلى رتبة ضابط.

وبينما كانت السفينة فيكتوار راسية في ميناء نابولي؛ استأذن ميسون قائده لزيارة مدينة روما، ومن هنا تغيَّر مصير ميسون إلى الأبد؛ فأثناء سياحته في شوارع المدينة تعرف على القسِّ الإيطالي كاراتشيولي الذي راح يطرح عليه رؤيته النقدية عن السلطة الدينية والنظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة.

كان كاراتشيولي متأثرًا بأفكار الفيلسوف الإيطالي توماس كامبانيلا Tommaso Campanella (1568-1639م) الذي قدَّم تصوره عن المدينة الفاضلة في كتابه الشهير «مدينة الشمس The City of the Sun». وترافق مع هذا التأثر ما رآه انحرافًا للكنيسة عن جوهر الدين، وركون رجالها إلى حياة الترف، وتغليبهم المنفعة على الفضيلة، ومسايرتهم السلطة الزمنية، وتقديسهم المادة، وإغفالهم قيمة الروح، مما آل بالكنيسة إلى أن صارت أداة لتهميش الضعفاء.

لذا وجَّه كاراتشيولي نقدًا لاذعًا إلى الكنيسة، وبدأ في بلورة تصوره عن العالم المثالي؛ فرأى أن الحرية حق إنساني، وأن المساواة هي السبيل الوحيد إلى مجتمع عادل، ونَبَذَ المال معتبرًا إيَّاه أصل جميع الشرور ومنبع الجشع الإنساني، ورفَض أيضًا حكم الإعدام لأنه رآه تعدِّيًا على الإرادة الإلهية، وأن الروح شأن إلهي لا يحق لأي إنسان مهما كانت سلطته أن يسلبها من إنسان مثله مهما كان إثمه.

خلبت أفكار كاراتشيولي لُبَّ ميسون، وتعاهد الاثنان على عدم الافتراق أبدًا، والسعي إلى إصلاح العالم وإنقاذ البشرية وإقامة دولة الحرية والمساواة، وراح ميسون يحلم بأن يُصبح أحد عظماء التاريخ مثل الإسكندر الأكبر، وخلع كاراتشيولي زي رجال الدين، وارتدى ثياب البحارة، وأصبح ضمن طاقم سفينة فيكتوار، وبدأ المغامران طريقهما نحو الحرية.

نحو الحرية

بحسب ما أورده تشارلز جونسون في كتابه «تاريخ القراصنة» فلقد مكث المغامران فترة على متن سفينة فيكتوار، أبليا خلالها بلاء حسنًا في صد هجوم السفن الأخرى، وأثناء ذلك كان كاراتشيولي يُبشِّر بأفكاره عن الحرية وجوهر الدين، ونجح في ضم عدد كبير من المناصرين الذين اعتبروه نبيًّا جديدًا يسعى إلى تنقية الدين من الانحرافات التي ألحقها به رجال الكنيسة.

ظلَّ الرجلان على حالهما حتى واتتهما فرصة الاستقلال بالسفينة ووضع حُلمهما الطوباوي موضع التنفيذ؛ كان ذلك في أوائل التسعينيات من القرن السابع عشر الميلادي، وكان عمر ميسون 25 عامًا، عندما أبحرت السفينة فيكتوار إلى ميناء مارتينيكوا martinico لحماية إحدى الشحنات الفرنسية من هجوم الإنجليز عليها، ونشبت معركة كبيرة بين الأسطولين الفرنسي والإنجليزي، كان النصر فيها حليفًا للفرنسيين.

بعد انتصار السفينة الفرنسية بزعامة ميسون، والإعجاب الشديد الذي كنَّه له طاقمها؛ فكر كاراتشيولي في عدم العودة إلى ميناء مارتينيكوا، واقترح على ميسون الانفراد بالسفينة وتأسيس جمهورية الحرية على متنها، بخاصة وأن رجالها أصبحوا يدينون بالولاء له ويرونه قائدًا عظيمًا.

اقتنع ميسون باقتراح كاراتشيولي، وجمع طاقم السفينة وألقى عليهم خطبة قدَّم فيها رؤيته لتغيير العالم، وأكد أنهم ليسوا قراصنة بل أحرارًا آثروا حياة البحر، وترك لهم حرية الانضمام إليه أو العودة. وبعد إنهائه الخطبة، هتف الجميع باسمه، معلنين انضمامهم إلى الجمهورية الجديدة.

وهكذا نشأت جمهورية القرصنة العائمة على متن سفينة فيكتوار، وتعهد الجميع بالعمل على تحقيق أهدافها المتمثلة في الحرية والمساواة، وأُسس مجلس قيادة الجمهورية الوليدة، وأصبح ميسون رئيسًا له، واختار كاراتشيولي الراية البيضاء لتكون علم الجمهورية وكُتب عليه «في سبيل الله والحرية»، وبدأت فيكتوار تجوب البحار للتبشير بأفكار جمهورية الحرية الجديدة.

مبادئ الجمهورية الجديدة

واجه ميسون في البداية بعض العثرات؛ فلم يكن شعب السفينة قد آمن بعد إيمانًا عميقًا بمبادئ الجمهورية الجديدة، ولم تزل عادتا السُكْر والسباب تسيطران عليهم؛ فبدؤوا يُلحون في طلب الخمور، واضطر ميسون إلى مجاراتهم حتى لا يفقد ولاءهم، بخاصة وأن الجمهورية لا تزال في طور التأسيس. وفي الوقت نفسه، عمل على تقويم سلوكهم وغرْس قيم النُبل والفروسية في نفوسهم.

 وقد نجح ميسون خلال فترة قصيرة في تهذيب سلوك أتباعه والقضاء على عادتي السكر والسباب، وبدا ذلك جليًّا أثناء احتجازهم السفن الأخرى؛ فلم يعتدوا على الأطفال أو الشيوخ أو النساء، ولم يحصلوا من السفن إلا على حاجاتهم الضرورية، غير عابئين بالنقود أو الذهب الموجود على متنها، ولم يلجأوا إلى العنف أو التهديد به، كما اقتصر عملهم على سفن الأثرياء فقط. وراح ميسون يعرض على السفن العابرة مبادئ الجمهورية ويؤكد أنهم ليسوا قراصنة بل رُسلًا لعقيدة جديدة، ويدعوهم إلى الانضمام إلى شعب جمهورية القرصنة العائمة.

لم تقتصر جهود ميسون على الدعوة إلى مبادئ جمهوريته، بل عمل أيضًا على تحرير الزنوج الأفارقة من رقِّ العبودية؛ فكان يهاجم السفن الأوروبية المحمَّلة بالزنوج الأفارقة في طريقها إلى أوروبا أو الأمريكتين، مهدِّدًا بذلك اقتصادًا كبيرًا تقتات عليه الإمبريالية الأوروبية. وخير مثال على ذلك مهاجمته السفنة الهولندية نيفستان، التي كانت في طريقها إلى أمستردام؛ إذ تبيَّن له أن بداخلها بضاعة حية من الأفارقة؛ فاستولى عليها وحرر الزنوج منها وقال قولته الشهيرة:

«هاكم مثالًا على القوانين والأعراف المخزية التي نحاربها! هل من الممكن أن نجد أمرًا منافيًا للعدالة الإلهية مثلما نجده في المتاجرة بأناس أحياء؟ هل من الممكن أن يُباع هؤلاء التعساء كما لو كانوا قطيعًا من الماشية، لمجرد أن لون بشرتهم يختلف عن لون بشرتنا؟ إن هؤلاء اللصوص الذين يتكسَّبون من وراء تجارة الرقيق لا روح لهم ولا قلب.. وعلى هذا أُعلن أن هؤلاء الأفارقة أحرارًا..»

راحت جمهورية القرصنة العائمة تجوب البحار والمحيطات بمحاذاة الشواطئ الأفريقية حتى استقرت بادئ الأمر في جزيرة أنجوان Anjouan (إحدي جزر القمر)؛ حيث استقبلهم حاكمها بترحاب شديد، مما شجعهم على اتخاذ الجزيرة قاعدة رئيسية لهم يُطلقون منها حملاتهم، وأقاموا علاقات مصاهرة مع سكانها؛ فتزوج ميسون من شقيقة زوجة الحاكم، وتزوج كاراتشيولي من ابنة أخيه، كما تزوج عددٌ كبير من شعب الجمهورية من فتيات الجزيرة.

التأسيس على الأرض

وبعد فترة قصيرة على استقرارهم، فكَّر ميسون في تأسيس جمهوريته على أرض جزيرة أنجوان، لكن حال دون ذلك ارتباط سكانها الشديد بدينهم وعاداتهم، وعدم استيعاب حاكم الجزيرة وزعمائها أفكار الجمهورية، وتمسكهم بمزاياهم الإقطاعية، والتي تسلبهم إيَّاها الجمهورية الجديدة، فشدَّ شعب جمهورية القرصنة العائمة الرحال إلى مدغشقر.

وفي مدغشقر استُقبلوا بحفاوة بالغة، مما شجَّع المغامران على إقامة جمهوريتهما المثالية على أرضها؛ فاتخذ ميسون من المرفأ الكبير الواقع على الجانب الأيسر من خليج دييجو سواريز Diego Suares في الطرف الشمالي من الجزيرة مقرًّا لها، وأطلق عليها اسم ليبرتاليا Libertalia وهي من الكلمة الإيطالية Liberta أي: الحرية.

وكان نواة سكان ليبرتاليا مائة قرصان وزوجاتهم، وأرسل ميسون إلى قراصنة البحار يدعوهم إلى الانضمام إليه والمشاركة في بناء دولة الحرية، ولاقت دعوته قبول كثير منهم، وبخاصة القرصان الإنجليزي الشهير توماس تيو Thomas Tew (1949-1695م) الذي انضم إلى الجمهورية الجديدة وتفانى في خدمتها.

وأعدَّ كاراتشيولي دستور الجمهورية الجديدة الذي نصَّ على إرساء دعائم الحرية والمساواة والاشتراكية والفضيلة؛ فأصبحت الحرية حقًا مكفولًا للجميع، وتساوى جميع مواطني ليبرتاليا في الحقوق والواجبات بغض النظر عن لون البشرة أو الوضع الاجتماعي السابق، وتطبيقًا للإشتراكية؛ أُلغيت الملكية الخاصة وأُسست خزانة مشتركة للجمهورية تُزوَّد بما يجلبه القراصنة من غنائم تُقسم إلى نصفين؛ أحدهما يذهب إلى خزانة الجمهورية، والآخر إلى مواطني ليبرتاليا بالتساوي، كما جُرِّم السباب والسكر ولعب القمار لمنافاتهم للفضيلة والأخلاق.

تحقيق الأحلام

كانت الجمهورية تُحكم بواسطة مجلس حكماء يرأسه ميسون الذي حمل لقب الحامي، كان هذا المنصب يتم شغله بالانتخاب لمدة ثلاث سنوات. أما كاراتشيولي فأصبح وزيرًا للدولة، وشغل القبطان توماس تيو أيضًا منصب القائد الأعلى للأسطول.

وحُصِّنت الجمهورية تحصينًا منيعًا، وبُنيت منازل صغيرة للمواطنين، وأُبرمت اتفاقيات مع القبائل المجاورة؛ نصَّت على تزويد القبائل الجمهورية بالعمالة مقابل حماية القراصنة لهم، وتوزَّع النشاط الاقتصادي للسكان ما بين القرصنة وزراعة الأرض، إلى جانب بناء السفن. وبمرور الزمن، انضم إلى الجمهورية بحارة كثيرون من أجناس مختلفة، وأصبح التواصل يتم بأربع لغات: الفرنسية والإنجليزية والبرتغالية والهولندية، فضلًا عن عددٍ كبير من اللهجات المحلية.

بعدما ثبَّتت الجمهورية الجديدة أركانها في مدغشقر؛ بدأ ميسون التخطيط لتوسيع حدودها وضم أراضٍ جديدة؛ فسار على طول الساحل الشرقي للجزيرة ورسم خرائط للمناطق الساحلية، ثم جهز أسطولًا كبيرًا جمع فيه معظم قوات الجمهورية، وأبحر به في رحلة بحرية للحصول على المال لتحقيق خططه، لكنه لم يتحسب للمتربصين بجمهوريته الوليدة.

فقد أدى إخلاء الجزيرة من قوة مسلحة، باستثناء قوة ضئيلة بقيادة توماس تيو، إلى جعلها فريسة سهلة بين أنياب قبائل المناطق الداخلية الذين انتهزوا الفرصة وهجموا عليها، وقتلوا معظم سكانها وبخاصة كاراتشيولي وزوجة ميسون، ودمروها بالكامل، مما دفع مجموعة صغيرة من سكانها بقيادة توماس تيو إلى الفرار نحو البحر مستقلين القارب الوحيد في الجزيرة.

وفي وسط البحر التقت سفينتا تيو وميسون، فعادا معًا إلى الجزيرة التي صارت خرابًا بالكامل؛ فدفنوا موتاهم، لكنهم لم يعيدوا بناءها من جديد؛ فقد بدا لهم هذا المكان ملعونًا. ولذا قررا الذهاب إلى أمريكا، والبدء في بناء ليبرتاليا مرة أخرى.

وفي الطريق افترقت السفينتان في قناة موزمبيق وغرقت سفينة ميسون بكل طاقمها ولقي ميسون حتفه، أما توماس تيو؛ فهبط على إحدى جزر غرب المحيط الهندي، وسرعان ما لقي حتفه هو الآخر، وانتهت بذلك جمهورية ليبرتاليا التي نزلت بحُلم المدينة الفاضلة من علياء خيال الفلاسفة والشعراء إلى أرض الواقع.

ألهمت جمهورية ليبرتاليا عددًا من الأدباء نسجوا على منوالها أعمالًا أدبية متميزة؛ لعل أبرزها رواية «متمرِّدو الحرية Les Mutins de la liberté» للصحفي الفرنسي دانيال فاكسولير Daniel Vaxelaire (1948م) الذي ذكر في مستهل روايته أنه جمع مادته مما سمعه من أخبار عن هذه الجمهورية أثناء عمله في مدغشقر.

# ليبرتاليا # مدغشقر # تاريخ

حوار| كايل أندرسون: توثيق تاريخ الفلاحين أجمل تجارب حياتي
بسبب التنافس على السلطة: أشهر قصائد المعارضة عند العرب
أقاموا بالقاهرة ورفعوا علمهم بالإسكندرية: الصليبيون في مصر

معرفة